فصل: تفسير الآية رقم (21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 122‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ‏}‏ لا يكسبنكم‏.‏ ‏{‏شِقَاقِى‏}‏ معاداتي‏.‏ ‏{‏أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ‏}‏ من الغرق‏.‏ ‏{‏أَوْ قَوْمَ هُودٍ‏}‏ من الريح‏.‏ ‏{‏أَوْ قَوْمَ صالح‏}‏ من الرجفة و‏{‏أن‏}‏ بصلتها ثاني مفعولي جزم، فإنه يعدى إلى واحد وإلى اثنين ككسب‏.‏ وعن ابن كثير ‏{‏يَجْرِمَنَّكُمْ‏}‏ بالضم وهو منقول من المتعدي إلى مفعول واحد، والأول أفصح فإن أجرم أقل دوراناً على ألسنة الفصحاء‏.‏ وقرئ ‏{‏مَثَلُ‏}‏ بالفتح لإِضافته إلى المبنى كقوله‏:‏

لَمْ يُمْنع الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أَنْ نَطَقَت *** حَمَامَةٌ فِي غُصُون ذات ارْقَالِ

‏{‏وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ‏}‏ زماناً أو مكاناً فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم، أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي فلا يبعد عنكم ما أصابهم، وإفراد البعيد لأن المراد وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد، ولا يبعد أن يسوي في أمثاله بين المذكر والمؤنث لأنها على زنة المصادر كالصهيل والشهيق‏.‏

‏{‏واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ عما أنتم عليه‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ‏}‏ عظيم الرحمة للتائبين‏.‏ ‏{‏وَدُودٌ‏}‏ فاعل بهم من اللطف والإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، وهو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار‏.‏

‏{‏قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ‏}‏ ما نفهم‏.‏ ‏{‏كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ‏}‏ كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلاً عليهما، وذلك لقصور عقولهم وعدم تفكرهم‏.‏ وقيل قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم عنه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا‏}‏ لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءاً، أو مهيناً لاعِزَّ لك، وقيل أعمى بلغة حمير وهو مع عدم مناسبته يرده التقييد بالظرف، ومنع بعض المعتزلة استنباء الأعمى قياساً على القضاء والشهادة والفرق بين‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ رَهْطُكَ‏}‏ قومك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم، فإن الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى التسعة‏.‏ ‏{‏لرجمناك‏}‏ لقتلناك برمي الأحجار أو بأصعب وجه‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ‏}‏ فتمنعنا عزتك عن الرجم، وهذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسب، والتهديد وفي إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، وأن المانع لهم عن إيذائه عزة قومه ولذلك‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً‏}‏ وجعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به والإِهانة برسوله فلا تبقون علي لله وتبقون علي لرهطي، وهو يحتمل الإِنكار والتوبيخ والرد والتكذيب، و‏{‏ظِهْرِيّاً‏}‏ منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ فلا يخفى عليه شيء منها فيجازي عليها‏.‏

‏{‏وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنّى عامل سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ سبق مثله في سورة «الأنعام» والفاء في ف ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ثمة للتصريح بأن الإِصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك، وحذفها ها هنا لأنه جواب سائل قال‏:‏ فماذا يكون بعد ذلك‏؟‏ فهو أبلغ في التهويل‏.‏

‏{‏وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ‏}‏ عطف على من يأتيه لا لأنه قسيم له كقولك‏:‏ ستعلم الكاذب والصادق، بل لأنهم لما أو عدوه وكذبوه قال‏:‏ سوف تعلمون من المعذب والكاذب مني ومنكم‏.‏ وقيل كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الأول إليهم والثاني إليه لكنهم لما كانوا يدعونه كاذباً قال‏:‏ ومن هو كاذب على زعمهم‏.‏ ‏{‏وارتقبوا‏}‏ وانتظروا ما أقول لكم‏.‏ ‏{‏إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ‏}‏ منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا‏}‏ إنما ذكره بالواو كما في قصة عاد إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنه ذكر بعد الوعد وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح‏}‏ فلذلك جاء بفاء السببية‏.‏ ‏{‏وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ‏}‏ قيل صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا‏.‏ ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين‏}‏ ميتين، وأصل الجثوم اللزوم في المكان‏.‏

‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ كأن لم يقيموا فيها‏.‏ ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ‏}‏ شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضاً بالصيحة، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم‏.‏ وقرئ ‏{‏بَعُدَتْ‏}‏ بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك، والبعد مصدر لهما والبعد مصدر المكسور‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا‏}‏ بالتوراة أو المعجزات‏.‏ ‏{‏وسلطان مُّبِينٍ‏}‏ وهو المعجزات القاهرة أو العصا، وإفرادها بالذكر لأنها أبهرها، ويجوز أن يراد بهما واحد أي‏:‏ ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطاناً له على نبوته واضحاً في نفسه أو موضحاً إياها، فإن أبان جاء لازماً ومتعدياً، والفرق بينهما أن الآية تعم الأمارة، والدليل القاطع والسلطان يخص بالقاطع والمبين يخص بما فيه جلاء‏.‏

‏{‏إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ‏}‏ فاتبعوا أمره بالكفر بموسى أو فما تبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم‏.‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ‏}‏ مرشد أو ذي رشد، وإنما هو غي محض وضلال صريح‏.‏

‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة‏}‏ إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال قدم بمعنى تقدم‏.‏ ‏{‏فَأَوْرَدَهُمُ النار‏}‏ ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ونزل النار لهم منزلة الماء فسمى إتيانها مورداً ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبِئْسَ الورد المورود‏}‏ أي بئس المورد الذي وردوه فإنه يراد لتبريد الأكباد وتسكين العطش والنار بالضد، والآية كالدليل على قوله‏:‏

‏{‏وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ‏}‏ فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد، أو تفسير له على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها‏.‏

‏{‏وَأُتْبِعُواْ فِى هذه‏}‏ الدنيا‏.‏ ‏{‏لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة‏}‏ أي يلعنون في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏بِئْسَ الرفد المرفود‏}‏ بئس العون المعان أو العطاء المعطى، وأصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي ذلك النبأ‏.‏ ‏{‏مِنْ أَنْبَاء القرى‏}‏ المهلكة‏.‏ ‏{‏نَقُصُّهُ عَلَيْكَ‏}‏ مقصوص عليك‏.‏ ‏{‏مِنْهَا قَائِمٌ‏}‏ من تلك القرى باق كالزرع القائم‏.‏ ‏{‏وَحَصِيدٌ‏}‏ ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود، والجملة مستأنفة وقيل حال من الهاء في نقصه وليس بصحيح إذ لا واو ولا ضمير‏.‏

‏{‏وَمَا ظلمناهم‏}‏ بإهلاكنا إياهم‏.‏ ‏{‏ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بأن عرضوها له بارتكاب ما يوجبه‏.‏ ‏{‏فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ‏}‏ فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم بل ضرتهم‏.‏ ‏{‏آلِهَتُهُمُ التى يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَئ لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ حين جاءهم عذابه ونقمته‏.‏ ‏{‏وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ‏}‏ هلاك أو تخسير‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك الأخذ‏.‏ ‏{‏أَخْذُ رَبّكَ‏}‏ وقرئ ‏{‏أَخْذُ رَبّكَ‏}‏ بالفعل وعلى هذا يكون محل الكاف النصب على المصدر‏.‏ ‏{‏إِذَا أَخَذَ القرى‏}‏ أي أهلها وقرئ»إِذ«لأن المعنى على المضي‏.‏ ‏{‏وَهِىَ ظالمة‏}‏ حال من ‏{‏القرى‏}‏ وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها، وفائدتها الإِشعار بأنهم أخذوا بظلمهم وإنذار كل ظالم ظلم نفسه، أو غيره من وخامة العاقبة‏.‏ ‏{‏إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏ وجيع غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي فيما نزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه الله تعالى من قصصهم‏.‏ ‏{‏لآيَةً‏}‏ لعبرة‏.‏ ‏{‏لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الأخرة‏}‏ يعتبر به عظمته لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة، أو ينزجر به عن موجباته لعلمه بأنها من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء‏.‏ فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة دل عليه‏.‏ ‏{‏يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس‏}‏ أي يجمع له الناس، والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه من شأنه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع‏}‏ ومعنى الجمع له الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة‏.‏ ‏{‏وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ‏}‏ أي مشهود فيه أهل السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به كقوله‏:‏

في مَحفَلِ مِنْ نَوَاصِي النَّاس مَشْهُود *** أي كثير شاهدوه، ولو جعل اليوم مشهوداً في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك‏.‏

‏{‏وَمَا نُؤَخّرُهُ‏}‏ أي اليوم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ‏}‏ إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على حذف المضاف وإرادة مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَأْتِى‏}‏ أي الجزاء أو اليوم كقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة‏}‏ على أن ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ بمعنى حين أو الله عز وجل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ‏}‏ ونحوه‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ‏{‏يَأْتِ‏}‏ بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسر‏.‏ ‏{‏لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ‏}‏ لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهو الناصب للظرف ويحتمل نصبه بإضمار اذكر أو بالانتهاء المحذوف‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ إلا بإذن الله كقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن‏}‏ وهذا في موقف وقوله‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة والممنوع عنه هي الأعذار الباطلة‏.‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ‏}‏ وجبت له النار بمقتضى الوعيد‏.‏ ‏{‏وَسَعِيدٌ‏}‏ وجبت له الجنة بموجب الوعد الضمير لأهل الموقف وإن لم يذكر لأنه معلوم مدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ‏}‏ أو للناس‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏}‏ الزفير إخراج النفس والشهيق رده، واستعمالها في أول النهيق وآخره والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه، أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرئ ‏{‏شَقُواْ‏}‏ بالضم‏.‏

‏{‏خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض‏}‏ ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما‏.‏ بل التعبير عن التأبيد والمبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل، ولو كان للارتباط لم يلزم أيضاً من زوال السموات والأرض زوال عذابهم ولا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم، لأن دوامهما كالملزوم لدوامه، وقد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق‏.‏ وقيل المراد سموات الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض‏}‏ وإن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل ومقل، وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه، ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض، وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ تقسيماً صحيحاً لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه، لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع وها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين، وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين، أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه، أو من أصل الحكم والمستثنى زمان توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم، أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ إن كان الحكم مطلقاً غير مقيد باليوم، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت‏.‏

وقيل هو من قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏}‏ وقيل إلا ها هنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان القديمان والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏ من غير اعتراض‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع، ولأجله فرق بين الثواب والعقاب بالتأبيد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص ‏{‏سُعِدُواْ‏}‏ على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده، و‏{‏عَطَاء‏}‏ نصب على المصدر المؤكد أي أعطوا عطاء أو الحال من الجنة‏.‏

‏{‏فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ‏}‏ شك بعد ما أنزل عليك من مآل أمر الناس‏.‏ ‏{‏مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء‏}‏ من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم، أو من حال ما يعبدونه في أنه يضر ولا ينفع‏.‏ ‏{‏مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ‏}‏ استئناف معناه تعليل النهي عن المرية أي هم وآباؤهم سواء في الشرك، أي ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم أو ما يعبدون شيئاً إلا مثل ما عبدوه من الأوثان، وقد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك فسيلحقهم مثله، لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى ‏{‏كَمَا يَعْبُدُ‏}‏ كما كان يعبد فحذف للدلالة من قبل عليه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏}‏ حظهم من العذاب كآبائهم، أو من الرزق فيكون عذراً لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه‏.‏ ‏{‏غَيْرَ مَنقُوصٍ‏}‏ حال من النصيب لتقييد التوفية فإنك تقول‏:‏ وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازاً‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ‏}‏ فآمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن‏.‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ يعني كلمة الإِنظار إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به عن المحق‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ‏}‏ وإن كفار قومك‏.‏ ‏{‏لَفِى شَكّ مّنْهُ‏}‏ من القرآن‏.‏ ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ موقع في الريبة‏.‏

‏{‏وَإِنَّ كُلاًّ‏}‏ وإن كل المختلفين المؤمنين منهم والكافرين، والتنوين بدل من المضاف إليه‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإِعمال اعتباراً للأصل‏.‏ ‏{‏لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ اللام الأولى موطئة لقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس وما مزيدة بينهما للفصل‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ‏{‏لَّمّاً‏}‏ بالتشديد على أن أصله لمن ما فقلبت النون ميماً للادغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، والمعنى لمن الذين يوفينهم ربك جزاء أعمالهم‏.‏ وقرئ لما بالتنوين أي جميعاً كقوله‏:‏ ‏{‏أَكْلاً لَّمّاً‏}‏ ‏{‏وَإِن كُلٌّ لَّمَّا‏}‏ على إن ‏{‏إن‏}‏ نافية و‏{‏لَّمّاً‏}‏ بمعنى إلا وقد قرئ به‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ فلا يفوته شيء منه وإن خفي‏.‏

‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل ما أمر بها وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها وهي في غاية العسر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ شيبتني هود ‏"‏ ‏{‏وَمَن تَابَ مَعَكَ‏}‏ أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك، وهو عطف على المستكن في استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ‏}‏ ولا تخرجوا عما حد لكم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فهو مجازيكم عليه، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي‏.‏ وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان‏.‏

‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ولا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم واستدامته‏.‏ ‏{‏فَتَمَسَّكُمُ النار‏}‏ بركونكم إليهم وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين أي الموسومين بالظلم، ثم بالميل إليهم كل الميل، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فإنه ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه‏.‏ وقرئ ‏{‏تِرْكَنُواْ‏}‏» فَتِمَسَّكُمُ«بكسر التاء على لغة تميم و‏{‏تَرْكَنُواْ‏}‏ على البناء للمفعول من أركنه‏.‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ من أنصار يمنعون العذاب عنكم والواو للحال‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ أي ثم لا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم، وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه وأوجبه لهم، ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاء لمعنى الاستبعاد، فإنه لما بين أن الله معذبهم وأن غيره لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلاً‏.‏

‏{‏وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار‏}‏ غدوة وعشية وانتصابه على الظرف لأنه مضاف إليه‏.‏ ‏{‏وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ وساعات منه قريبة من النهار، فإنه من أزلفه إذا قربه وهو جمع زلفة، وصلاة الغداة صلاة الصبح لأنها أقرب الصلاة من أول النهار، وصلاة العشية صلاة العصر، وقيل الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي وصلاة الزلف المغرب والعشاء‏.‏ وقرئ»زُلُفا«بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر في بسرة و‏{‏زلفى‏}‏ بمعنى زلفة كقربي وقربة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ يكفرنها‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر ‏"‏ وفي سبب النزول «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني قد أصبت من امرأة غير أني لم آتها فنزلت»‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى قوله ‏{‏فاستقم‏}‏ وما بعده وقيل إلى القرآن‏.‏ ‏{‏ذكرى لِلذكِرِينَ‏}‏ عظة للمتعظين‏.‏

‏{‏واصبر‏}‏ على الطاعات وعن المعاصي‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ عدول عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلاً على أن الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإِخلاص‏.‏

‏{‏فَلَوْلاَ كَانَ‏}‏ فهلا كان‏.‏ ‏{‏مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ‏}‏ من الرأي والعقل، أو أولو فضل وإنما سمي ‏{‏بَقِيَّتُ‏}‏ لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه، ومنه يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم، ويجوز أن يكون مصدراً كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب، ويؤيده أنه قرئ ‏{‏بَقِيَّتُ‏}‏ وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه‏.‏ ‏{‏يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ‏}‏ لكن قليلاً منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك، ولا يصح اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض‏.‏ ‏{‏واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ‏}‏ ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقوله واتبع على معطوف مضمر دل عليه الكلام إذ المعنى‏:‏ فلم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على ‏{‏أَتَّبِعُ‏}‏ أو اعترض‏.‏ وقرئ»واتبع«أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال، ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإِنجاء‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ‏}‏ بشرك‏.‏ ‏{‏وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏ فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فساداً وتباغياً، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد‏.‏

وقيل الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم‏.‏

‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ مسلمين كلهم، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإِرادة وأنه تعالى لم يرد الإِيمان من كل أحد وأن ما أراده يجب وقوعه‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقاً‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ إلا ناساً هداهم الله من فضله فاتفقوا على ما هو أصول دين الحق والعمدة فيه‏.‏ ‏{‏ولذلك خَلَقَهُمْ‏}‏ إن كان الضمير ل ‏{‏الناس‏}‏ فالإِشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة أو إليه وإلى الرحمة، وإن كان لمن فإلى الرحمة‏.‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ‏}‏ وعيد أو قوله للملائكة‏.‏ ‏{‏لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس‏}‏ أي من عصاتهما ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ أو منهما أجمعين لا من أحدهما‏.‏

‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ وكل نبأ‏.‏ ‏{‏نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل‏}‏ نخبرك به‏.‏ ‏{‏مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ بيان لكلا أو بدل منه، وفائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص وهو زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، أو مفعول ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ منصوب على المصدر بمعنى كل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك ما نثبت به فؤادك من أنباء الرسل‏.‏ ‏{‏وَجَاءكَ فِى هذه‏}‏ السورة أو الأنباء المقتصة عليك‏.‏ ‏{‏الحق‏}‏ ما هو حق‏.‏ ‏{‏وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ إشارة إلى سائر فوائده العامة‏.‏

‏{‏وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ على حالكم‏.‏ ‏{‏إِنَّا عَامِلُونَ‏}‏ على حالنا‏.‏

‏{‏وانتظروا‏}‏ بنا الدوائر‏.‏ ‏{‏إِنَّا مُنتَظِرُونَ‏}‏ أن ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض‏}‏ خاصة لا يخفى عليه خافية مما فيهما‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ‏}‏ فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه‏.‏ وقرأ نافع وحفص و«يُرْجَعُ» على البناء للمفعول‏.‏ ‏{‏فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ فإنه كافيك‏.‏ وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد‏.‏ ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ أنت وهم فيجازي كلاً ما يستحقه‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء هنا وفي آخر «النمل»‏.‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح ومن كذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء إن شاء الله تعالى ‏"‏‏.‏

سورة يوسف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏3‏)‏ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏الر تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين‏}‏ ‏{‏تِلْكَ‏}‏ إشارة إلى آيات السورة وهي المراد ب ‏{‏الكتاب‏}‏، أي تلك الآيات آيات السورة الظاهرة أمرها في الإِعجاز أو الواضحة معانيها، أو المبينة لمن تدبرها أنها من عند الله، أو لليهود ما سألوا إذ روي أن علماءهم قالوا لكبراء المشركين سلوا محمداً لم أنتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه السلام فنزلت‏:‏

‏{‏إِنَّا أنزلناه‏}‏ أي الكتاب‏.‏ ‏{‏قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ سمى البعض ‏{‏قُرْءاناً‏}‏ لأنه في الأصل اسم جنس يقع على الكل والبعض وصار علماً للكل بالغلبة، ونصبه على الحال وهو في نفسه إما توطئة للحال التي هي ‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ أو حال لأنه مصدر بمعنى مفعول، و‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ صفة له أو حال من الضمير فيه أو حال بعد حال وفي كل ذلك خلاف‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ علة لإنزاله بهذه الصفة أي أنزلناه مجموعاً أو مقروءاً بلغتكم كي تفهموه وتحيطوا بمعانيه، أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أن اقتصاصه كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإِيحاء‏.‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص‏}‏ أحسن الاقتصاص لأن اقتص على أبدع الأساليب، أو أحسن ما يقص لاشتماله على العجائب والحكم والآيات والعبر فعل بمعنى مفعول كالنقص والسلب، واشتقاقه من قص أثره إذا أتبعه ‏{‏بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ أي بإيحائنا‏.‏ ‏{‏هذا القرءان‏}‏ يعني السورة، ويجوز أن يجعل هذا مفعول نقص على أن أحسن نصب على المصدر‏.‏ ‏{‏وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين‏}‏ عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط، وهو تعليل لكونه موحى وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ يُوسُفُ‏}‏ بدل من ‏{‏أَحْسَنَ القصص‏}‏ إن جعل مفعولاً بدل الاشتمال، أو منصوب باضمار اذكر و‏{‏يُوسُفَ‏}‏ عبري ولو كان عربياً لصرف‏.‏ وقرئ بفتح السين وكسرها على التلعب به لا على أنه مضارع بني للمفعول أو الفاعل من آسف لأن المشهورة شهدت بعجمته‏.‏ ‏{‏لأَبِيهِ‏}‏ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وعنه عليه الصلاة السلام ‏"‏ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ‏"‏ ‏{‏يَا أَبَتِ‏}‏ أصله يا أبي فوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة ولذلك قلبها هاء في الوقف ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وكسرها لأنها عوض حرف يناسبها، وفتحها ابن عامر في كل القرآن لأنها حركة أصلها أو لأنه كان يا أبتا فحذف الألف وبقي الفتحة، وإنما جاز «يا أبتا» ولم يجز يا أبتي لأنه جمع بين العوض والمعوض‏.‏ وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض، وإنما لم تسكن كأصلها لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب‏.‏

‏{‏إِنّى رَأَيْتُ‏}‏ من الرؤيا لا من الرؤية لقوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ‏}‏ ولقوله‏:‏ ‏{‏هذا تَأْوِيلُ رؤياى مِن قَبْلُ‏}‏ ‏{‏أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر‏}‏‏.‏ روي عن جابر رضي الله تعالى عنه ‏(‏أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف، فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال إذا أخبرتك هل تسلم قال نعم، قال جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له فقال اليهودي إي والله إنها لأسماؤها‏)‏ ‏{‏رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ‏}‏ استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرير وإنما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم‏.‏

‏{‏قَالَ يَا بُنَيَّ‏}‏ تصغير ابن صغرهَ للشفقة أو لصغر السن لأنه كان ابن اثنتي عشرة سنة‏.‏ وقرأ حفص هنا وفي «الصافات» بفتح الياء‏.‏ ‏{‏لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا‏}‏ فيحتالوا لإِهلاكك حيلة، فهم يعقوب عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ويفوقه على إخوته، فخاف عليه حسدهم وبغيهم والرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في النوم، فرق بينهما بحرفي التأنيث كالقربة والقربى وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه، وإنما عدى كاد باللام وهو متعد بنفسه لتضمنه معنى فعل يتعدى به تأكيداً ولذلك أكد بالمصدر وعلله بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة لما فعل بآدم عليه السلام وحواء فلا يألوا جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس‏.‏ ‏{‏يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ‏}‏ للنبوة والملك أو لأمور عظام، والاجتباء من جبيب الشيء إذا حصلته لنفسك‏.‏ ‏{‏وَيُعَلّمُكَ‏}‏ كلام مبتدأ خارج عن التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك‏.‏ ‏{‏مِن تَأْوِيلِ الأحاديث‏}‏ من تعبير الرؤيا لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة، وأحاديث النفس أو الشيطان إن كانت كاذبة‏.‏ أو من تأويل غوامض كتب الله تعالى وسنن الأنبياء وكلمات الحكماء، وهو اسم جمع للحديث كأباطيل اسم جمع للباطل‏.‏ ‏{‏وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة‏.‏ ‏{‏وعلى ءالِ يَعْقُوبَ‏}‏ يريد به سائر بنيه، ولعله استدل على نبوتهم بضوء الكواكب أو نسله‏.‏ ‏{‏كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ‏}‏ بالرسالة وقيل على إبراهيم بالخلة والإِنجاء من النار وعلى إسحاق بانقاذه من الذبح وفدائه بذبح عظيم‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبلك أو من قبل هذا الوقت‏.‏ ‏{‏إبراهيم وإسحاق‏}‏ عطف بيان لأبويك‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ‏}‏ بمن يستحق الاجتباء‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يفعل الأشياء على ما ينبغي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ‏}‏ أي في قصتهم‏.‏ ‏{‏ءايات‏}‏ دلائل قدرة الله تعالى وحكمته، أو علامات نبوتك وقرأ ابن كثير «آية»‏.‏ ‏{‏لّلسَّائِلِينَ‏}‏ لمن سأل عن قصتهم، والمراد بإخوته بنو علاته العشرة وهم‏:‏ يهوذا وروبيل وشمعون ولاوى وزبالون ويشخر ودينة من بنت خالته ليا تزوجها يعقوب أولاً فلما توفيت تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف‏.‏ وقيل جمع بينهما ولم يكن الجمع محرماً حينئذ وأربعة آخرون‏:‏ دان ونفتالي وجاد وأشر من سريتين زلفة وبلهة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ‏}‏ بنيامين وتخصيصه بالإِضافة لاختصاصه بالاخوة من الطرفين‏.‏ ‏{‏أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا‏}‏ وحده لأن أفعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه، والمذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلي جائز في المضاف‏.‏ ‏{‏وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ والحال أنا جماعة أقوياء أحق بالمحبة من صغيرين لا كفاية فيهما، والعصبة والعصابة العشرة فصاعداً سمواً بذلك لأن الأمور تعصب بهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ لتفضيله المفضول أو لترك التعديل في المحبة‏.‏ روي أنه كان أحب إليه لما يرى فيه من المخايل وكان إخوته يحسدونه، فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة بحيث لم يصبر عنه، فتبالغ حسدهم حتى حملهم على التعرض له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 15‏]‏

‏{‏اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ‏(‏9‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏10‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏12‏)‏ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ‏(‏13‏)‏ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏14‏)‏ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏اقتلوا يُوسُفَ‏}‏ من جملة المحكي بعد قوله إذ قالوا كأنهم اتفقوا على ذلك الأمر إلا من قال «لا تقتلوا يوسف»‏.‏ وقيل إنما قاله شمعون أو دان ورضي به الآخرون‏.‏

‏{‏أَوِ اطرحوه أَرْضًا‏}‏ منكورة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإبهامها ولذلك نصبت كالظروف المبهمة‏.‏ ‏{‏يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ‏}‏ جواب الأمر‏.‏ والمعنى يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد‏.‏ ‏{‏وَتَكُونُواْ‏}‏ جزم بالعطف على ‏{‏يَخْلُ‏}‏ أو نصب بإضمار أن‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد يوسف أو الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه‏.‏ ‏{‏قَوْمًا صالحين‏}‏ تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بصلح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه، أو صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم‏.‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ‏}‏ يعني يهوذا وكان أحسنهم فيه رأياً‏.‏ وقيل روبيل‏.‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ‏}‏ فإن القتل عظيم‏.‏ ‏{‏وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب‏}‏ في قعره، سمي بها لغيبويته عن أعين الناظرين‏.‏ وقرأ نافع في «غيابات» في الموضعين على الجمع كأنه لتلك الجب غيابات‏.‏ وقرئ «غيبة» و«غيابات» بالتشديد‏.‏ ‏{‏يَلْتَقِطْهُ‏}‏ يأخذه‏.‏ ‏{‏بَعْضُ السيارة‏}‏ بعض الذين يسيرون في الأَرض‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ بمشورتي أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يفرق بينه وبين أبيه‏.‏

‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ‏}‏ لم تخافنا عليه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لناصحون‏}‏ ونحن نشفق عليه ونريد له الخير، أرادوا به استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما تنسم من حسدهم، والمشهور ‏{‏تَأْمَنَّا‏}‏ بالإدغام بإشمام‏.‏ وعن نافع بترك الإِشمام ومن الشواذ ترك الإِدغام لأنهما من كلمتين وتيمناً بكسر التاء‏.‏

‏{‏أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً‏}‏ إلى الصحراء‏.‏ ‏{‏يَرْتَعَ‏}‏ نتسع في أكل الفواكه ونحوها من الرتعة وهي الخصب‏.‏ ‏{‏وَيََلْعَبُ‏}‏ بالاستباق والانتضال‏.‏ وقرأ ابن كثير نرتع بكسر العين على أنه من ارتعى يرتعي ونافع بالكسر والياء فيه وفي ‏{‏يلعب‏}‏‏.‏ وقرأ الكوفيون ويعقوب بالياء والسكون على إسناد الفعل إلى يوسف‏.‏ وقرئ ‏{‏يَرْتَعْ‏}‏ من أرتع ماشيته و‏{‏يَرْتَعِ‏}‏ بكسر العين و‏{‏يلعب‏}‏ بالرفع على الابتداء‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ من أن يناله مكروه‏.‏

‏{‏قَالَ إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ‏}‏ لشدة مفارقته علي وقلة صبري عنه‏.‏ ‏{‏وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب‏}‏ لأن الأرض كانت مذأبة‏.‏ وقيل رأى في المنام أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره عليه، وقد همزها على الأصل ابن كثير ونافع في رواية قالون، وفي رواية اليزيدي وأبو عمرو وقفاً وعاصم وابن عامر وحمزة درجاً واشتقاقه من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة‏.‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون‏}‏ لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه‏.‏

‏{‏قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ اللام موطئة للقسم وجوابه‏:‏ ‏{‏إِنَّا إِذَا لخاسرون‏}‏ ضعفاء مغبونون، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار والواو في ‏{‏وَنَحْنُ عُصْبَةٌ‏}‏ للحال‏.‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب‏}‏ وعزموا على إلقائه فيها، والبئر بئر بيت المقدس أو بئر بأرض الأردن أو بين مصر ومدين، أو على ثلاثة فراسخ من مقام يعقوب وجواب لما محذوف مثل فعلوا به ما فعلوا من الأذى‏.‏ فقد روي ‏(‏أنهم لما بروزا به إلى الصحراء أخذوا يؤذونه ويضربونه حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح ويستغيث فقال يهوذا‏:‏ أما عاهدتموني أن لا تقتلوه فأتوا به إلى البئر، فدلوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم، فقال‏:‏ يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به فقالوا‏:‏ ادع الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر يلبسوك ويؤنسوك فلما بلغ نصفها ألقوه وكان فيها ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة كانت فيها فقام عليها يبكي فجاءه جبريل بالوحي‏)‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ‏}‏ وكان ابن سبع عشرة سنة‏.‏ وقيل كان مراهقاً أوحي إليه في صغره كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وفي القصص‏:‏ أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله في تميمة علقها بيوسف فأخرجه جبريل عليه السلام وألبسه إياه ‏{‏لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا‏}‏ لتحدثتهم بما فعلوا بك ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ أنك يوسف لعلو شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للحلى والهيئات، وذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتارين ‏{‏فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏‏.‏ بشره بما يؤول إليه أمره إيناساً له وتطييباً لقلبه‏.‏ وقيل ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ متصل ب ‏{‏أَوْحَيْنَا‏}‏ أي آنسناه بالوحي وهم لا يشعرون ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء‏}‏ أي آخر النهار‏.‏ وقرئ «عشياً» وهو تصغير عشي وعشي بالضم والقصر جمع أعشى أي عشوا من البكاء‏.‏ ‏{‏يَبْكُونَ‏}‏ متباكين‏.‏ روي أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال ما لكم يا بني وأين يوسف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ‏}‏ نتسابق في العدو أو في الرمي، وقد يشترك الافتعال والتفاعل كانتضال والتناضل‏.‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا‏}‏ بمصدق لنا ‏{‏وَلَوْ كُنَّا صادقين‏}‏ لسوء ظنك بنا وفرط محبتك ليوسف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ‏}‏ أي ذي كذب بمعنى مكذوب فيه، ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة وقرئ بالنصب على الحال من الواو أي جاؤوا كاذبين و‏{‏كَذَّبَ‏}‏ بالدال غير المعجمة أي كدر أو طري‏.‏ وقيل‏:‏ أصله البياض الخارج على أظفار الأحداث فشبه به الدم اللاصق على القميص، وعلى قميصه في موضع النصب على الظرف أي فوق قميصه أو على الحال من الدم إن جوز تقديمها على المجرور‏.‏ روي‏:‏ أنه لما سمع بخبر يوسف صاح وسأل عن قميصه فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال‏:‏ ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه‏.‏ ولذلك ‏{‏قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا‏}‏ أي سهلت لكم أنفسكم وهونت في أعينكم أمراً عظيماً من السول وهو الاسترخاء‏.‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ‏}‏ أي فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل، وفي الحديث ‏"‏ الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق ‏"‏ ‏{‏والله المستعان على مَا تَصِفُونَ‏}‏ على احتمال ما تصفونه من إهلاك يوسف وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم إن صح‏.‏

‏{‏وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ‏}‏ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريباً من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه‏.‏ ‏{‏فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ‏}‏ الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي‏.‏ ‏{‏فأدلى دَلْوَهُ‏}‏ فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا بُشْرىً هذا غُلاَمٌ‏}‏ نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعالى فهذا أوانك‏.‏ وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه‏.‏ وقرأ غير الكوفيين «يا بشراي» بالإِضافة، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي‏.‏ وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ ‏{‏يَا بُشْرى‏}‏ بالإِدغام وهو لغة و«بشراي» بالسكون على قصد الوقف‏.‏ ‏{‏وَأَسَرُّوهُ‏}‏ أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة‏.‏ وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر‏.‏ وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا‏:‏ هذا غلامنا أبق منا فاشتروه، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه‏.‏ ‏{‏بضاعة‏}‏ نصب على الحال أي أخفوه متاعاً للتجارة، واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَشَرَوْهُ‏}‏ وباعوه، وفي مرجع الضمير الوجهان أو اشتروه من اخوته‏.‏ ‏{‏بِثَمَنٍ بَخْسٍ‏}‏ مبخوس لزيفه أو نقصانه‏.‏ ‏{‏دراهم‏}‏ بدل من الثمن‏.‏ ‏{‏مَّعْدُودَةً‏}‏ قليلة فإنهم يزنون ما بلغ الأوقية ويعدون ما دونها‏.‏ قيل كان عشرين درهماً وقيل كان اثنين وعشرين درهماً‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ فِيهِ‏}‏ في يوسف‏.‏ ‏{‏مِنَ الزهدين‏}‏ الراغبين عنه والضمير في ‏{‏وَكَانُواْ‏}‏ إن كان للإِخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق وفيه متعلق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف، وإن جعل بمعنى الذي فهو متعلق بمحذوف بينه الزاهدين لأن متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ‏}‏ وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير أو إطفير، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي وقد آمن بيوسف عليه السلام ومات في حياته‏.‏ وقيل كان فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات‏}‏ والمشهور أنه من أولاد فرعون يوسف‏.‏ والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء‏.‏ روي‏:‏ أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة‏.‏ واختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه به غير الأول‏:‏ عشرون ديناراً وزوجا نعل وثوبان أبيضان‏.‏ وقيل ملؤه فضة وقيل ذهباً‏.‏ ‏{‏لاِمْرَأَتِهِ‏}‏ راعيل أو زليخا‏.‏ ‏{‏أَكْرِمِى مَثْوَاهُ‏}‏ اجعلي مقامه عندنا كريماً أي حسناً والمعنى أحسني تعهده‏.‏ ‏{‏عسى أَن يَنفَعَنَا‏}‏ في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا‏.‏ ‏{‏أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا‏}‏ نتبناه وكان عقيماً لما تفرس فيه من الرشد، ولذلك قيل‏:‏ أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت ‏{‏ياأبت استجره‏}‏ وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما‏.‏ ‏{‏وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض‏}‏ وكما مكنا محبته في قلب العزيز أو كما مكناه في منزله أو كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز مكنا له فيها‏.‏ ‏{‏وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث‏}‏ عطف على مضمر تقديره ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه أي كان القصد في إنجائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل ويدبر أمور الناس، ويعلم معاني كتب الله تعالى وأحكامه فينفذها، أو تعبير المنامات المنبهة على الحوادث الكائنة ليستعد لها ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحل كما فعل لسنيه‏.‏ ‏{‏والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ‏}‏ لا يرده شيء ولا ينازعه فيما يشاء أو على أمر يوسف أراد به إخوته شيئاً وأراد الله غيره فلم يكن إلا ما أراده‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن الأمر كله بيده، أو لطائف صنعه وخفايا لطفه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ منتهى اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين والأربعين، وقيل سن الشباب ومبدؤه بلوغ الحلم‏.‏ ‏{‏آتَيْنَاهُ حُكْمًا‏}‏ حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل، أو حكماً بين الناس‏.‏ ‏{‏وَعِلْماً‏}‏ يعني علم تأويل الأحاديث‏.‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله وإتقانه في عنفوان أمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ‏}‏ طلبت منه وتمحلت أن يواقعها، من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ومنه الرائد‏.‏ ‏{‏وَغَلَّقَتِ الأبواب‏}‏ قيل كانت سبعة والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإِيثاق‏.‏ ‏{‏وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ‏}‏ أي أقبل وبادر، أو تهيأت والكلمة على الوجهين اسم فعل بني على الفتح كأين واللام للتبيين كالتي في سقيا لك‏.‏ وقرأ ابن كثير بالضم وفتح الهاء تشبيهاً له بحيث، ونافع وابن عامر بالفتح وكسر الهاء كعيط‏.‏ وقرأ هشام كذلك إلا أنه يهمز‏.‏ وقد روي عنه ضم التاء وهو لغة فيه‏.‏ وقرئ ‏{‏هَيْتَ‏}‏ كجير و«هئت» كجئت من هاء يهيئ إذا تهيأ وقرئ هيئت وعلى هذا فاللام من صلته‏.‏ ‏{‏قَالَ مَعَاذَ الله‏}‏ أعوذ بالله معاذاً‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ إن الشأن‏.‏ ‏{‏رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ‏}‏ سيدي قطفير أحسن تعهدي إذ قال لك في ‏{‏أَكْرِمِى مَثْوَاهُ‏}‏ فما جزاؤه أن أخونه في أهله‏.‏ وقيل الضمير لله تعالى أي إنه خالقي أحسن منزلتي بأن عطف على قلبه فلا أعصيه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ المجازون الحسن بالسيء‏.‏ وقيل الزناة فإن الزنا ظلم على الزاني والمزني بأهله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا‏}‏ وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها، والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه، والمراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم، أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله‏.‏ ‏{‏لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ‏}‏ في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة المغالبة، ولا يجوز أن يجعل ‏{‏وَهَمَّ بِهَا‏}‏ جواب ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها، بل الجواب محذوف يدل عليه‏.‏ وقيل رأى جبريل عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقيل تمثل له يعقوب عاضاً على أنامله‏.‏ وقيل قطفير‏.‏ وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل التثبيت ثبتناه، أو الأمر مثل ذلك‏.‏ ‏{‏لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء‏}‏ خيانة السيد‏.‏ ‏{‏والفحشاء‏}‏ الزنا‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين‏}‏ الذين أخلصهم الله لطاعته‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كل القرآن إذا كان في أوله الألف واللام أي الذين أخلصوا دينهم لله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏واستبقا الباب‏}‏ أي تسابقا إلى الباب، فحذف الجار أو ضمن الفعل معنى الابتدار‏.‏ وذلك أن يوسف فرَّ منها ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج‏.‏ ‏{‏وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ‏}‏ اجتذبته من ورائه فانقد قميصه والقد الشق طولاً والقط الشق عرضاً‏.‏ ‏{‏وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا‏}‏ وصادفا زوجها‏.‏ ‏{‏لدى الباب قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ إيهاماً بأنها فرت منه تبرئة لساحتها عند زوجها وتغييره على يوسف وإغراءه به انتقاماً منه، و‏{‏مَا‏}‏ نافية أو استفهامية بمعنى أي شيء جزاءه إلا السجن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى‏}‏ طالبتني بالمؤاتاة، وإنما قال ذلك دفعاً لما عرضته له من السجن أو العذاب الأليم، ولو لم تكذب عليه لما قاله‏.‏ ‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ قيل ابن عم لها‏.‏ وقيل ابن خال لها صبياً في المهد‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «تكلم أربعة صغاراً ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» وإنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها‏.‏ ‏{‏إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين‏}‏ لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها، أو أنه أسرع خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين‏}‏ لأنه يدل على أنها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته‏.‏ والشرطية محكية على إرادة القول أو على أن فعل الشهادة من القول، وتسميتها شهادة لأنها أدت مؤداها والجمع بين إن وكان على تأويل أن يعلم أنه كان ونحوه ونظيره قولك‏:‏ إن أحسنت إلى اليوم فقد أحسنت إليك من قبل، فإن معناه أن تمنن علي بإحسانك أمنن عليك بإحساني لك السابق‏.‏ وقرئ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ ‏{‏وَمِنْ دُبُرٍ‏}‏ بالضم لأنهما قطعا عن الإِضافة كقبل وبعد، وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرف وبسكون العين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 33‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ‏}‏ إن قولك ‏{‏مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا‏}‏ أو إن السوء أو إن هذا الأمر‏.‏ ‏{‏مِن كَيْدِكُنَّ‏}‏ من حيلتكن والخطاب لها ولأمثالها أو لسائر النساء‏.‏ ‏{‏إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ‏}‏ فإن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيراً في النفس ولأنهن يواجهن به الرجال والشيطان يوسوس به مسارقة‏.‏

‏{‏يُوسُفَ‏}‏ حذف منه حرف النداء لقربه وتفطنه للحديث‏.‏ ‏{‏أَعْرِضْ عَنْ هذا‏}‏ اكتمه ولا تذكره‏.‏ ‏{‏واستغفرى لِذَنبِكِ‏}‏ يا راعيل‏.‏ ‏{‏إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين‏}‏ من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمداً والتذكير للتغليب‏.‏

‏{‏وَقَالَ نِسْوَةٌ‏}‏ هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله وضم النون لغة فيها‏.‏ ‏{‏فِى المدينة‏}‏ ظرف لقال أي أشعن الحكاية في مصر، أو صفة نسوة وكن خمساً وزوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب‏.‏ ‏{‏امرأت العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَّفْسِهِ‏}‏ تطلب مواقعة غلامها إياها‏.‏ و‏{‏العزيز‏}‏ بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة شاذة‏.‏ ‏{‏قَدْ شَغَفَهَا حُبّا‏}‏ شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حباً، ونصبه على التمييز لصرف الفعل عنه‏.‏ وقرئ«شعفها» من شعف البعير إذا هنأه بالقطران فأحرقه‏.‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب‏.‏

‏{‏فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ‏}‏ باغتيابهن، وإنما سماه مكراً لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره، أو قلن ذلك لتريهن يوسف أو لأنها استكتمتهن سرها فأفشينه عليها‏.‏ ‏{‏أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ‏}‏ تدعوهن قيل دعت أربعين امرأة فيهن الخمس المذكورات‏.‏ ‏{‏وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ‏}‏ ما يتكئن عليه من الوسائد‏.‏ ‏{‏وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً‏}‏ حتى يتكئن والسكاكين بأيديهن فإذا خرج عليهن يبهتن ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فيبكتن بالحجة، أو يهاب يوسف مكرها إذا خرج وحده على أربعين امرأة في أيديهن الخناجر‏.‏ وقيل متكأ طعاماً أو مجلس طعام فإنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب ترفاً ولذلك نهى عنه‏.‏ قال جميل‏:‏

فَظَللنا بِنِعْمَةٍ وَاتَكَأْنَا *** وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُللِهْ

وقيل المتكأ طعام يحز حزاً كأن القاطع يتكئ عليه بالسكين‏.‏ وقرئ «متكأ» بحذف الهمزة و«متكاء» بإشباع الفتحة كمنتزاح و«متكا» وهو الأترج أو ما يقطع من متك الشيء إذا بتكه و‏{‏متكأ‏}‏ من تكئ يتكأ إذا اتكأ‏.‏ ‏{‏وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ‏}‏ عظمنه وهبن حسنه الفائق‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر ‏"‏ وقيل كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران‏.‏ وقيل أكبرن بمعنى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت لأنها تدخل الكبر بالحيض، والهاء ضمير للمصدر أو ليوسف عليه الصلاة والسلام على حذف اللام أي حضن له من شدة الشبق كما قال المتنبي‏:‏

خَفِ اللّهَ وَاسْتُرْ ذَا الجَمَالَ بِبرقع *** فَإِنَ لحتَ حَاضَتْ فِي الخُدُورِ العَواتِقُ

‏{‏وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ‏}‏ جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة‏.‏ ‏{‏وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ‏}‏ تنزيهاً له من صفات العجز وتعجباً من قدرته على خلق مثله، وأصله «حاشا» كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفاً وهو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء، فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما في قولك سقيا لك‏.‏ وقرئ «حاش الله» بغير لام بمعنى براءة الله، و«حاشا لله» بالتنوين على تنزيله منزلة المصدر‏.‏ وقيل «حاشا» فاعل من الحشا الذي هو الناحية وفاعله ضمير يوسف أي صار في ناحية الله مما يتوهم فيه‏.‏ ‏{‏مَا هذا بَشَرًا‏}‏ لأن هذا الجمال غير معهود للبشر، وهو على لغة الحجاز في إعمال ما عمل ليس لمشاركتها في نفي الحال‏.‏ وقرئ بَشَرٌ بالرفع على لغة تميم وبشرى أي بعبد مشترى لئيم‏.‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ فإن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة، أو لأن جماله فوق جمال البشر ولا يفوقه فيه إِلا الملك‏.‏

‏{‏قَالَتْ فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ‏}‏ أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في الافتنان به قبل أن تتصورنه حق تصوره، ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني أو فهذا هو الذي لمتني فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعاً لمنزلة المشار إليه‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم‏}‏ فامتنع طلباً للعصمة، أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي يعاونها على إلانة عريكته‏.‏ ‏{‏وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ‏}‏ أي ما آمر به، فحذف الجار أو أمري إياه بمعنى موجب أمري فيكون الضمير ليوسف‏.‏ ‏{‏لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين‏}‏ من الإذلاء وهو من صغر بالكسر يصغر صغراً وصغاراً والصغير من صغر بالضم صغراً‏.‏ وقرئ «لَّيَكُونُنَّ» وهو يخالف خط المصحف لأن النون كتبت فيه بالألف «نسفعاً» على حكم الوقف وذلك في الخفيفة لشبهها بالتنوين‏.‏

‏{‏قَالَ رَبّ السجن‏}‏ وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر‏.‏ ‏{‏أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ‏}‏ أي آثر عندي من مؤاتاتها زناً نظراً إلى العاقبة وإن كان هذا مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه، وإسناد الدعوة إليهن جميعاً لأنهن خوفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها‏.‏ أو دعونه إلى أنفسهن، وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر‏.‏ ‏{‏وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى‏}‏ وإن لم تصرف عني‏.‏ ‏{‏كَيْدَهُنَّ‏}‏ في تحبيب ذلك إلي وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة‏.‏ ‏{‏أَصْبُ إِلَيْهِنَّ‏}‏ أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي، والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تستطيبها وتميل إليها‏.‏ وقرئ ‏{‏أَصْبُ‏}‏ من الصبابة وهي الشوق‏.‏ ‏{‏وَأَكُن مّنَ الجاهلين‏}‏ من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل القبيح، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجهال سواء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏فاستجاب لَهُ رَبُّهُ‏}‏ فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلاَّ تَصْرِفْ‏}‏ ‏{‏فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ‏}‏ فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ لدعاء الملتجئين إليه‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بأحوالهم وما يصلحهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات‏}‏ ثم ظهر للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن وفاعل ‏{‏بَدَا‏}‏ مضمر يفسره‏.‏ ‏{‏لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ‏}‏ وذلك لأنها خدعت زوجها وحملته على سجنه زماناً حتى تبصر ما يكون منه، أو يحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن سبع سنين‏.‏ وقرئ بالتاء على أن بعضهم خاطب به العزيز على التعظيم أو العزيز ومن يليه، وعتى بلغة هذيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ‏}‏ أي أدخل يوسف السجن واتفق أنه أدخل حينئذ آخران من عبيد الملك شرابيه وخبازه للاتهام بأنهما يريدان أن يسماه‏.‏ ‏{‏قَالَ أَحَدُهُمَا‏}‏ يعني الشرابي‏.‏ ‏{‏إِنّى أَرَانِى‏}‏ أي في المنام وهي حكاية حال ماضية‏.‏ ‏{‏أَعْصِرُ خَمْرًا‏}‏ أي عنباً وسماه خمراً باعتبارِ ما يؤول إليه‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الآخر‏}‏ أي الخباز‏.‏ ‏{‏إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطير مِنْهُ‏}‏ تنهش منه‏.‏ ‏{‏نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين‏}‏ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا، أو من العالمين وإنما قالا ذلك لأنهما رأياه في السجن يذكر الناس ويعبر رؤياهم، أو من المحسنين إلى أهل السجن فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ‏}‏ أي بتأويل ما قصصتما علي، أو بتأويل الطعام يعني بيان ماهيته وكيفيته فإنه يشبه تفسير المشكل، كأنه أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الطريق القويم قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد، فقدم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير‏.‏ ‏{‏قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذلكما‏}‏ أي ذلك التأويل‏.‏ ‏{‏مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى‏}‏ بالإلهام والوحي وليس من قبيل التكهن أو التنجيم‏.‏ ‏{‏إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون‏}‏ تعليل لما قبله أي علمني ذلك لأني تركت ملة أولئك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏واتبعت مِلَّةَ ءابَاءي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنه من بيت النبوة لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق عليه، ولذلك جوز للخامل أن يصف نفسه حتى يعرف فيقتبس منه، وتكرير الضمير للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالآخرة‏.‏ ‏{‏مَا كَانَ لَنَا‏}‏ ما صح لنا معشر الأنبياء‏.‏ ‏{‏أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَئ‏}‏ أي شيء كان‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي التوحيد‏.‏ ‏{‏مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا‏}‏ بالوحي‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الناس‏}‏ وعلى سائر الناس يبعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس‏}‏ المبعوث إليهم‏.‏ ‏{‏لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ هذا الفضل فيعرضون عنه ولا يتنبهون، أو من فضل الله علينا وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها فيلغونها كمن يكفر النعمة ولا يشكرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏ياصاحبى السجن‏}‏ أي يا ساكنيه، أو يا صاحبي فيه فأضافهما إليه على الاتساع كقوله‏:‏

يَا سَارِقَ اللْيلَةَ أَهْلَ الدَّارِ *** ‏{‏أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ‏}‏ شتى متعددة متساوية الأقدام‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ أَمِ الله الواحد‏}‏ المتوحد بالألوهية‏.‏ ‏{‏القهار‏}‏ الغالب الذي لا يعادله ولا يقاومه غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر‏.‏ ‏{‏إِلآَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ أي إلا أشياء باعتبار أسام أطلقتم عليها من غير حجة تدل على تحقق مسمياتها فيها فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة‏.‏ والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة، ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها‏.‏ ‏{‏إِنِ الحكم‏}‏ ما الحكم في أمر العبادة‏.‏ ‏{‏إلا لِلَّهِ‏}‏ لأنه المستحق لها بالذات من حيث إنه الواجب لذاته الموجد للكل والمالك لأمره‏.‏ ‏{‏أَمرَ‏}‏ على لسان أنبيائه‏.‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ الذي دلت عليه الحجج‏.‏ ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ الحق وأنتم لا تميزون المعوج عن القويم، وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، بين لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الالهية فإن استحقاق العبادة إما بالذات وإما بالغير وكلا القسمين منتف عنها، ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذي لا يقتضي العقل غيره ولا يرتضي العلم دونه‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيخبطون في جهالاتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏ياصاحبى السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا‏}‏ يعني الشرابي‏.‏ ‏{‏فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا‏}‏ كما كان يسقيه قبل ويعود إلى ما كان عليه‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا الأخر‏}‏ يريد به الخباز‏.‏ ‏{‏فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ‏}‏ فقالا كذبنا فقال ‏{‏قُضِىَ الأمر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏ أي قطع الأمر الذي تستفتيان فيه، وهو ما يؤول إليه أمركما ولذلك وحده، فإنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا‏}‏ الظان يوسف إن ذكر ذلك عن اجتهاد وإن ذكره عن وحي فهو الناجي إلا أن يؤول الظن باليقين‏.‏ ‏{‏اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏ اذكر حالي عند الملك كي يخلصني‏.‏ ‏{‏فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبّهِ‏}‏ فأنسى الشرابي أن يذكره لربه، فأضاف إليه المصدر لملابسته له أو على تقدير ذكر أخبار ربه، أو أنسي يوسف ذكر الله حتى استعان بغيره، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل ‏{‏اذكرنى عِندَ رَبّكَ‏}‏ لما لبث في السجن سبعاً بعد الخمس» والاستعانة بالعباد في كشف الشدائد وإن كانت محمودة في الجملة لكنها لا تليق بمنصب الأنبياء‏.‏ ‏{‏فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ‏}‏ البضع ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الملك إِنّى أرى سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ‏}‏ لما دنا فَرَجه رأى الملك سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات مهازيل فابتلعت المهازيل السمان‏.‏ ‏{‏وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ‏}‏ قد انعقد حبها‏.‏ ‏{‏وَأُخَرَ يابسات‏}‏ وسبعاً أخر يابسات قد أدركت فالْتَوَتِ اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها، وإنما استغنى عن بيان حالها بما قص من حال البقرات، وأجرى السمان على المميز دون المميز لأن التمييز بها ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التمييز بها مجرداً عن الموصوف فإنه لبيان الجنس، وقياسه عجف لأنه جمع عجفاء لكنه حمل على ‏{‏سِمَانٍ‏}‏ لأنه نقيضه‏.‏ ‏{‏يأَيُّهَا الملأ أَفْتُونِى فِى رؤياى‏}‏ عبروها‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ‏}‏ إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور وهي المجاوزة، وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيراً واللام للبيان أو لتقوية العامل فإن الفعل لما أخر عن مفعوله ضعف فقوي باللام كاسم الفاعل، أو لتضمن ‏{‏تَعْبُرُونَ‏}‏ معنى فعل يعدى باللام كأنه قيل‏:‏ إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ‏}‏ أي هذه أضغاث أحلام وهي تخاليطها جمع ضغث وأصله ما جمع من أخلاط النبات وحزم فاستعير للرؤيا الكاذبة، وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان كقولهم‏:‏ فلان يركب الخيل، أو لتضمنه أشياء مختلفة‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بعالمين‏}‏ يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أي ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة فهو كأنه مقدمة ثانية للعذر في جهلهم بتأويله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا‏}‏ من صاحبي السجن وهو الشرابي‏.‏ ‏{‏وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ‏}‏ وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة أي مدة طويلة‏.‏ وقرئ «إمة» بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعدما أنعم عليه بالنجاة، وأمه أي نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي، والجملة اعتراض ومقول القول‏.‏ ‏{‏أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ‏}‏ أي إلى من عنده علمه أو إلى السجن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق‏}‏ أي فأرسل إلى يوسف فجاءه فقال يا يوسف، وإنما وصفه بالصديق وهو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه‏.‏ ‏{‏أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات‏}‏ أي في رؤيا ذلك‏.‏ ‏{‏لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس‏}‏ أعود إلى الملك ومن عنده، أو إلى أهل البلد إذا قيل إن السجن لم يكن فيه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ تأويلها أو فضلك ومكانك، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازماً بالرجوع فربما اخترم دونه ولا يعلمهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا‏}‏ أي على عادتكم المستمرة وانتصابه على الحال بمعنى دائبين، أو المصدر بإضمار فعله أي تدأبون دأباً وتكون الجملة حالاً‏.‏ وقرأ حفص ‏{‏دَأَبًا‏}‏ بفتح الهمزة وكلاهما مصدر دأب في العمل‏.‏ وقيل ‏{‏تَزْرَعُونَ‏}‏ أمر أخرجه في صورة الخبر مبالغة لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ‏}‏ لئلا يأكله السوس، وهو على الأول نصيحة خارجة عن العبارة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ‏}‏ في تلك السنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 54‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ‏}‏ أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن فأسند إليهن على المجاز تطبيقاً بين المعبر والمعبر به‏.‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ‏}‏ تحرزون لبذور الزراعة‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس‏}‏ يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث‏.‏ ‏{‏وَفِيهِ يَعْصِرُونَ‏}‏ ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار‏.‏ وقيل يحلبون الضروع‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي، وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضاً، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر‏.‏ وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب، أو بأن السنة الإِلهية على أن يوسع على عباده بعدما ضيق عليهم‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ‏}‏ بعد ما جاءه الرسول بالتعبير ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُ الرسول‏}‏ ليخرجه‏.‏ ‏{‏قَالَ ارجع إلى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة الاتى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ‏}‏ إنما تأنى في الخروج وقدم سؤال النسوة وفحص حالهن لتظهر براءة ساحته ويعلم أنه سجن ظلماً فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره‏.‏ وفيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإِجابة» وإنما قال فاسأله ما بال النسوة ولم يقل فاسأله أن يفتش عن حالهن تهييجاً له على البحث وتحقيق الحال، وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرماً ومراعاة للأدب وقرئ ‏{‏النسوة‏}‏ بضم النون‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ‏}‏ حين قلن لي أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه وعلى أنه بريء مما قذف به والوعيد لهن على كيدهن‏.‏

‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ‏}‏ قال الملك لهن ما شأنكن والخطب أمر يحق أن يخاطب فيه صاحبه‏.‏ ‏{‏إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ‏}‏ تنزيه له وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله‏.‏ ‏{‏مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء‏}‏ من ذنب‏.‏ ‏{‏قَالَتِ امرأة العزيز الئن حَصْحَصَ الحق‏}‏ ثبت واستقر من حصحص البعير إذا ألقى مباركهُ ليناخ قال‏:‏

فَحَصْحَصَ فِي صُمَ الصفَا ثَفَنَاتِه *** وَنَاءَ بِسَلْمَى نَوأَة ثُمَّ صَمَّمَا

أو ظهر من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه‏.‏ وقرئ على البناء للمفعول‏.‏

‏{‏أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين‏}‏ في قولهِ‏:‏ ‏{‏هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى‏}‏ ‏{‏ذلك لِيَعْلَمَ‏}‏ قاله يوسف لما عاد إليه الرسول وأخبره بكلامهن أي ذلك التثبت ليعلم العزيز‏.‏ ‏{‏أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏ بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو المفعول أي لم أخنه وأنا غائب عنه، أو وهو غائب عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة‏.‏ ‏{‏وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين‏}‏ لا ينفذه ولا يسدده، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع الفعل على الكيد مبالغة‏.‏ وفيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته ولذلك عقبه بقوله‏:‏

‏{‏وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِى‏}‏ أي لا أنزهها تنبيهاً على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق‏.‏ وعن ابن عباس أنه لما قال‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب‏}‏ قال له جبريل ولا حين هممت فقال‏:‏ ذلك‏.‏ ‏{‏إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء‏}‏ من حيث إنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها، وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى‏}‏ إلا وقت رحمة ربي، أو إلا ما رحمه الله من النفوس فعصمه من ذلك‏.‏ وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإِساءة‏.‏ وقيل الآية حكاية قول راعيل والمستثنى نفس يوسف وأضرابه‏.‏ وعن ابن كثير ونافع ‏{‏بالسّو‏}‏ على قلب الهمزة واواً ثم الادغام‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يغفر هَمَّ النفس ويرحم من يشاء بالعصمة أو يغفر للمستغفر لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه‏.‏

‏{‏وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى‏}‏ أجعله خالصاً لنفسي‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا كَلَّمَهُ‏}‏ أي فلما أتوا به فكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ‏}‏ ذو مكانة ومنزلة‏.‏ ‏{‏أَمِينٌ‏}‏ مؤتمن على كل شيء‏.‏ روي أنه لما خرج من السجن اغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك قال‏:‏ اللهم إني أسألك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرية فقال الملك‏:‏ ما هذا اللسان قال‏:‏ لسان آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لساناً فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه فقال‏:‏ أحب أن أسمع رؤياي منك، فحكاها ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره‏.‏ وقيل توفي قطفير في تلك الليالي فنصبه منصبه وزوج منه راعيل فوجدها عذراء وولد له منها أفرائيم وميشا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض‏}‏ ولني أمرها والأرض أرض مصر‏.‏ ‏{‏إِنّي حَفِيظٌ‏}‏ لها ممن لا يستحقها‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بوجوه التصرف فيه، ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة آثر ما تعم فوائده وتجل عوائده، وفيه دليل على جواز طلب التولية وإظهار أنه مستعد لها والتولي من يد الكافر إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به‏.‏ وعن مجاهد أن الملك أسلم على يده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 60‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض‏}‏ في أرض مصر‏.‏ ‏{‏يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء‏}‏ ينزل من بلادها حيث يهوى وقرأ ابن كثير «نشاء» بالنون‏.‏ ‏{‏نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء‏}‏ في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ بل نوفي أَجورهم عاجلاً وآجلاً‏.‏ ‏{‏وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ الشرك والفواحش لعظمه ودوامه‏.‏

‏{‏وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ‏}‏ روي‏:‏ أنه لما استوزره الملك أقام العدل واجتهد في تكثير الزراعات وضبط الغلات، حتى دخلت السنون المجدبة وعم القحط مصر والشأم ونواحيهما، وتوجه إليه الناس فباعها أولاً بالدراهم والدنانير حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً ثم عرض الأمر على الملك فقال‏:‏ الرأي رأيك فأعتقهم ورد عليهم أموالهم، وكان قد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد فأرسل يعقوب بنيه غير بنيامين إليه للميرة‏.‏ ‏{‏فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ أي عرفهم يوسف ولم يعرفوه لطول العهد ومفارقتهم إياه في سن الحداثة ونسيانهم إياه، وتوهمهم أنه هلك وبعد حاله التي رأوه عليها من حاله حين فارقوه وقلة تأملهم في حلاه من التهيب والاستعظام‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ‏}‏ أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله، والجهاز ما يعد من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة إلى زوجها وقرئ ‏{‏بِجَهَازِهِمْ‏}‏ بالكسر‏.‏ ‏{‏قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ‏}‏ روي‏:‏ أنهم لما دخلوا عليه قال‏:‏ من أنتم وما أمركم لعلكم عيون‏؟‏ قالوا‏:‏ معاذ الله إنما نحن بنو أب واحد وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب، قال كم أنتم‏؟‏ قالوا كنا اثني عشر فذهب أحدنا إلى البرية فهلك، قال‏:‏ فكم أنتم ها هنا قالوا عشرة، قال‏:‏ فأين الحادي عشر‏؟‏ قالوا‏:‏ عند أبينا يتسلى به عن الهالك، قال‏:‏ فمن يشهد لكم‏.‏ قالوا‏:‏ لا يعرفنا أحد ها هنا فيشهد لنا قال‏:‏ فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا فأصابت شمعون‏.‏ وقيل كان يوسف يعطي لكل نفر حملاً فسألوه حملاً زائداً لأخ لهم من أبيهم فأعطاهم وشرط عليهم أن يأتوه به ليعلم صدقهم‏.‏ ‏{‏أَلاَ تَرَوْنَ أَنّي أُوفِى الكيل‏}‏ أتمه‏.‏ ‏{‏وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين‏}‏ للضيف والمضيفين لهم وكان أحسن إنزالهم وضيافتهم‏.‏

‏{‏فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ‏}‏ أي ولا تقربوني ولا تدخلوا دياري، وهو إما نهي أو نفي معطوف على الجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ‏}‏ سنجتهد في طلبه من أبيه‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لفاعلون‏}‏ ذلك لا نتوانى فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ‏}‏ لغلمانه الكيالين جمع فتى‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص«لِفِتْيَانِهِ» على أنه جمع الكثرة ليوافق قوله‏:‏ ‏{‏اجعلوا بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ‏}‏ فإنه وكل بكل رحل واحداً يعني فيه بضاعتهم التي شروا بها الطعام، وكانت نعالاً وأدماً وإنما فعل ذلك توسيعاً وتفضلاً عليهم وترفعاً من أن يأخذ ثمن الطعام منهم، وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا‏}‏ لعلهم يعرفون حق ردها‏.‏ أو لكي يعرفوها‏.‏ ‏{‏إِذَا انقلبوا‏}‏ انصرفوا ورجعوا‏.‏ ‏{‏إلى أَهْلِهِمْ‏}‏ وفتحوا أوعيتهم‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل‏}‏ حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب ببنيامين‏.‏ ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ‏}‏ نرفع المانع من الكيل ونكتل ما نحتاج إليه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالياء على إسناده إلى الأخ أي يكتل لنفسه فينضم اكتياله إلى اكتيالنا‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ من أن يناله مكروه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ‏}‏ وقد قلتم في يوسف‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏‏.‏ ‏{‏فالله خَيْرٌ حافظا‏}‏ فأتوكل عليه وأفوض أمري إليه، وانتصاب «حفظاً» على التمييز و‏{‏حافظا‏}‏ على قراءة حمزة والكسائي وحفص يحتمله والحال كقوله‏:‏ لله دره فارساً، وقرئ ‏{‏خَيْرٌ حافظا‏}‏ و«خير الحافظين»‏.‏ ‏{‏وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ فارجوا أن يرحمني بحفظه ولا يجمع على مصيبتين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ‏}‏ وقرئ ‏{‏رُدَّتْ‏}‏ بنقل كسرة الدال المدغمة إلى الراء نقلها في بيع وقيل‏.‏ ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا مَا نَبْغِي‏}‏ ماذا نطلب هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا‏.‏ أو لا نطلب وراء ذلك إحساناً أو لا نبغي في القول ولا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه‏.‏ وقرئ «ما تبغي» على الخطاب أي‏:‏ أي شيء تطلب وراء هذا من الإِحسان، أو من الدليل على صدقنا‏؟‏ ‏{‏هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ استئناف موضح لقوله ‏{‏مَا نَبْغِى‏}‏‏.‏ ‏{‏وَنَمِيرُ أَهْلَنَا‏}‏ معطوف على محذوف أي ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا بالرجوع إلى الملك‏.‏ ‏{‏وَنَحْفَظُ أَخَانَا‏}‏ عن المخاوف في ذهابنا وإيابنا‏.‏ ‏{‏وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ وسق بعير باستصحاب أخينا، هذا إذا كانت ‏{‏مَا‏}‏ استفهامية فأما إذا كانت نافية احتمل ذلك واحتمل أن تكون الجمل معطوفة على ‏{‏مَا نَبْغِى‏}‏، أي لا نبغي فيما نقول ‏{‏وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا‏}‏‏.‏ ‏{‏ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ‏}‏ أي مكيل قليل لا يكفينا، استقلوا ما كيل لهم فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم، ويجوز أن تكون الإِشارة إلى كيل بعير أي ذلك شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك ولا يتعاظمه، وقيل إنه من كلام يعقوب ومعناه، إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد‏.‏